جميل أن تدخل مكان ما قبل أو بعد ازدحامه.. طبيعي أن قبل يفرق عن بعد بكثير.. لكن يتساويان بعض الشئ في عدم وجود كثير من البشر، ويفترقان كثيرا في نظافة وطهارة ونظام المكان؛ والإحساس أيضا بالمكان وقيمته تختلف عنه فيما بعد ما يتركه الناس.
وقت ما تدخله .. لا يوجد إلا أنت هنا، وحدك هنا، أنت المُوجد والصانع والمشرف والمشاهد والمنشأ هنا.. فأنت من يرتب وجهة نظر المكان مع إختلاف وجهات النظر المتعدده له، وأنت أيضا من يمنهج سير دربه على طول طريقه؛ لا أتحدث في أن من يأتي بعدك سيطبق ما وضعت أم لا؛ هذا يعود لأدبه وأخلاقه؛ لكن ما أتحدث فيه أنك الزائر الأول للمكان الذي أتى من نصيبه أن يكن المكان مضاء بروحه وعبيره وكلماته.
أنظر لعالم التدوين كثير بهذه النظرة.. أن أول المدونون في مكان ما أكتسبوا هذي الصفات، وطبقوها، وساروا عليها.. منهم من أكمل، ومنهم من رأى أن طريقه ليس هنا، ومنهم من دخله وكان هاوي القصة وبعد ذلك وجدها ممتعة فأكمل، ومنهم من تركها لأنه شئ ممل، وآخرون ظلوا هنا وهناك..
دخلت إلى هذا العالم وأنا أرتجف من خوف ما.. كخوف السُميكة التي كانت تسبح إلى أن أتت إلى بحيرة ووجدت كل ما فيها قروش، كان عندها الموهبة لأن تصبح يوما ما قرشا؛ لكن خوفها منعها من بلوغ المستوى الأول لإعداد هذي القروش؛ فرضيت بأن تجلس على مقاعد المشاهدين حتى تتعلم كيف تصبح قرشا وبعدها تدخل البحيرة.
ذكرتني نفسي بخوفها هذا بصديقتي التي كانت تريد تعليم السياسة وممارستها.. فقالت لنفسها "أنا اقرأ المقالات والحوارات التي تدور على الساحة السياسية بالمنتدى التي بها عضويتها حتى تتعلمها".. وبعد فترة وجدت نفسها ما تعلمت السياسة ولكنها قرأتها فقط.. ووجدت أن تعلمها لا يأتي إلا بممارستها والدخول إلى عالمها من داخله وليس بالحوم حوله.
على كلٍ.. ظلت السُميكة جالسة تقرأ هنا، ولا تعلق هناك، ويعجبها هذا، وتستطيع النقد هناك.. وكانت كلما نظرت لنفسها تعرف أن داخلها قدرة تستطع بها أن تصبح حوت، وعند إفاقتها تجد أنها لم تزل سُميكة لا تبحر إلا على شط البحيرة.
وقد يكن هذا الخوف -بيد أنها من صنعته- إلا أنه ربما يكن سببه أسباب أخرى كما النقد الذي اعتدنا عليه أنه دائما هدّام.. وأنك إذا فعلت شيئا فإنه مهدوم مهدوم.
وقد يكن خوف آخر لا أستطيع وصفه.. لكنه كخوف من سيطرة رسمتها أنت على نفسك، ومكنتها منك، وأتحت لها فرصة التحكم فيك.
رسمتها ودققت الرسم بها من وقع خيالك، وبصيص رؤيتك المظلمة لنفسك، ومن عدم ثقتك بها.. فكان لزاما على عقلك الباطن أن يحدثك بهالة تحيطك، وتسيطر عليك، وتتحكم فيك، وتقرر مصيرك، وترسم طريقك.
حتى إذا ما أتحت لنفسك الفرصة أن تبعد عن أحاديثها السلبية ورؤيتها السوداوية وتنظر لها بعين بها بصيص من الأمل والثقة والتفاؤل؛ستجد بكل سهولة أن لا شئ حولك، ولا أحد يمسك يدك.. وأن دربك لا يرسمه إلا ريشتك التي تتحكم فيها يدك.
وأنك أنت من أنت، لا أحد معك غيرك، ولا متحدث لنفسك إلا أنت.